كتاب بحوث في الملل والنحل ـ جلد الثامن ::: 201 ـ 210
(201)
2 ـ القضاء والقدر لا يسلبان الاختيار
    إنّ القضاء والقدر من العقائد الاِسلاميّة التي لا محيص لمسلم عن الاعتقاد بهما ، غير أنّ البحث فيهما ينصّب على نكتة مهمة وهي هل أنّهما يسلبان الاختيار أو لا ؟
    فالظاهر من أهل السنّة ، إلاّمَنْ شذَّ ، تفسيرهما على وجه يسلبان الاختيار ، على خلاف ما ذهبت إليه العدليّة.
    والاِسماعيليّة تُثبت القضاء والقدر حقيقةً لا مجازاً ، ولكنها تُنفي كونهما سالبين للاختيار.
    يقول الداعي علي بن محمد الوليد : القضاء والقدر حقيقة لا مجاز ، ولهما في الخلق أحوال على ما رتب الفاعل سبحانه ، من غير جبر يلزم النفوس الآدمية الدخول إلى النار أو الجنة.
    إلى أن قال : إذ لو كان كذلك لذهبت النبوات والاَوامر المسطورات في الكتب المنزّلة ، في ذم قوم على ما اقترفوه ، ومدح قوم على ما فعلوه.
    ثمّإنّه فسّر القضاء بمعنى الفراغ ، والاَمر ، والخبر ، والفعل ، والوصيّة ، وأرجع الجميع إلى معنى الفراغ.
    وأمّا القدر : فقد فسّ ـ ره بأنّه من المقدار ، والتقدير ، والترتيب ، ثمّ جعل له تفاسير ثمانية ، ومن أراد فليرجع إليه. (1)
    وقد نقل في آخر الفصل رسالة الحسن البصري إلى الحسين بن علي عليمها السّلام يسأله عن القضاء والقدر ، كما نقل جواب الاِمام إليه ، وقد جاءت هذه الرسالة أيضاً في كتاب « تحف العقول » للحلبي الحراني مع اختلاف يسير.
    1 ـ تاج العقائد : 179.

(202)
الاِسماعيلية والاَُصول الخمسة
3
عقيدتهم في النبوة
1 ـ النبوّة أعلى درجات البشر
    النبوّة : عبارة عن ارتقاء النفس إلى مرتبة تصلح لاَن يتحمل الوحي.
    يقول الداعي علي بن محمد الوليد : إنّالرسول الحائز لرتبة الرسالة ، لا ينبغي أن يكون كمالاً يفوق كماله ولا علماً يخرج عن علمه ، وأنّه الذي به تكون سعادة أهل الدور من أوّله إلى آخره ، وأنّ السعادة الفلكيّة ، والاَشخاص العاليّة ، والموَثرات ، خدم له في زمانه.
    والوجود مكشوف له ، وبين يديه ، فنظره ثاقب ، وإحاطته كلّية ، وحدود أوضاعه مبرّأة من النقص ، وجميع ما يأتي به محرر ، لا يحتاج إلى زيادة ، وأقواله لا تردّ ، ولا يوجد فيما ينطق به خلل ، وجوهره المقدّس نهاية في الشرف ، وأنّ القوة الملكية عليه أغلب وحواسه خادمة لنفسه ، وعقله لا ينظر إلاّإلى أوامر اللّه تعالى خالقه ، وأنّه في نهاية من المنازل من مولودات العالم في حسنه. (1)

2 ـ الرسالة الخاصة والعامة
    إنّ الرسالة على ضربين : خاصّة ، وعامّة.
    1 ـ تاج العقائد : 57 ـ 58.

(203)
    فالرسالة العامّة شاملة طبعاً ، وعقلاً ، ولولا الرسالة الاَُولى العامّة ، لن تُقبل الرسالة الخاصّة ، وذلك لاَنّه تعالى خلق الصورة الآدميّة ، وأكمل منافعها ، وسوّاها على أحسنِ هيئة ، ووضع فيها العقل الغريزي ، الذي إليه ترجع أحوال الصورة لنيل منافعها ، فهو الرسول الاَوّل المُعدُّ لقبول أمر الرسول الثاني ، الخاص لمنافع النفس في الآخرة ، مثلما كان الاَوّل لمنافع الدنيا ، وعلى الاَوّل يعول في الاغتذاء ، وطلب المصالح بغير ثواب ولا عقاب ، إذ هو أمرٌ بديهي لمنافع الصورة ، وعلى الثاني يكون الحساب والعقاب ، إذ هو أمرٌ ربّانيّ ، يدعو إلى دار غير دار الطبيعة.
    إلى أن قال :
    فإذا أظهر الرسول الرسالة ، كانت الفضيلة على المستضيء المنتفع بها ، وذلك القادح هو الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) إلى الخلق وحجّته على أهل زمانه ، وهو لسانه فيهم ، وترجمانه في العالم السفلي بأسره ، والمتبحّر أبداً في الحكمة. (1)
    أقول : إنّتسمية العقل الاِنسانيّ بالرسول لا يخلو من شيء ، والاَولى تسميته بالحُجّة الباطنة ، في مقابل الحجّة الظاهرة ، الذي هو النبي.

3 ـ الوحي
    إنّ الوحي : إلهام خاص بالاَنبياء والمرسلين ، إذا كانت لغاية التشريع ، وتبيين الوظائف لمن بعثوا إليهم ، وله طرق ثلاثة ، جاء في الذكر الحكيم ، قال سبحانه :
    « وَ ما كانَلِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللّهُ إِلاّ وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَرَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ » . (2)
    1 ـ تاج العقائد : 48 ـ 50.
    2 ـ الشورى : 51.


(204)
    وأمّا الوحي عند الاِسماعيليّة ، فيقول الداعي علي بن محمد الوليد : إنّ الوحي : هو ما قبلته نفس الرسول من العقل ، وقبله العقل من أمر باريه ، ولم يخالفه علم تألفه النفس الناطقة ، بقواها ، ثمّ تتأمّل منه النفس ما ليس لها استنباطاً بذاتها ، ولا تستخرجه بفكرها ، وتكون فيه غاية لسداد قصدها ، ومصلحة لجميع أمرها.
    إلى أن قال : والفرق بين الوحي وغيره من سائر العلوم ، أنّ الوحيَ يرد على من يوحى إليه مفروغاً منه ، قد استغنى عن الزيادة فيه والنقصان منه ، كما يقع الصحيح للمستمع من المتكلم ، وصفه ومعناه خارجين عن قدرة من جاء به ، وليس كذلك العلوم ، لاَنّها تكون بالمقايسة ، وكثرة الذّوبِ فيها ، وإعمال الفكر و الرّويّة والتأليف والتحرير. (1)
    ثمّ للداعي الكرماني كلام مفصّلٌ في الوحي لا يخلو من تعقيد. أعرضنا عن نقله. (2)

4 ـ في أنّالاَنبياء لا يولدون من سِفاح
    يقول علي بن محمد الوليد : إنّ الاَنبياء والاَئمّة (عليهم السّلام) لا يلدهم الكفّار ، ولا يولدون من سِفاح ، ثمّ استدلَّ ببعض الآيات ، وما جاء في التاريخ في حقّ عبد المطلب وأبي طالب. (3)

5 ـ في صفات الاَنبياء
    يقول الداعي الكرماني : الموَيد المبعوث مجمع الفضائل الطبيعيّة ، التي هي
    1 ـ تاج العقائد : 47 ـ 48.
    2 ـ راجع راحة العقل : 409 ـ 410.
    3 ـ تاج العقائد : 51.


(205)
أسبابٌ في نيل السعادة الاَبديّة ، وهو فيها على أمر يكون به على النهاية في جميعها ، من جودة الفهم والتصوّر لما يشار إليه ويومأ ، ومن جَودة الحفظ لما يراه الخاطر والعين على تباينه ، ويدركه السمع من الصوت على اختلافه ، ومن جودة الفِطنة والذكاء والتوقّد فيهما ، ومن جودة الذكر ، ومن جودة الاَعضاء وسلامتها ، والقدرة على التأنّ ـ ي بمعاناة أُمور الحرب ومباشرتها والصبر عليها ، ومن جودة الفطرة والطبع ، ومن جودة النحيزة (الخير) في السلامة والانقياد لكلّ خير ، فيكون خالياً من الرذائل ، التي هي الشره والطمع والرغبة في المأكول والمشروب والمنكوح زيادة على الحاجة ، واللعب واللهو ، وعاطلاً في الجملة ، من الاَُمور التي تعوق على النفس سعادتها.
    ويكون عظيم النفس كريماً ، محبّاً للعدل ، مبغضاً للظلم والجور ، موَثراً لما يعود على النفس منفعته من العبادة ، مقداماً في الاَُمور ، جسوراً عليها ، لا يروعه أمر في جنب ما يراه صواباً بجوهره. (1)

6 ـ الرسول الناطق
    الرسول الناطق ، هو الاَصل الذي يصدر عنه الدين بما فيه من علم وعمل ، وبمن فيه من أئمة يدعون إلى التحقّق بكمال العلم عن طريق العبادة الظاهرة. (2)
    وفي الحقيقة ، الرسولُ الناطق عندهم ، عبارة عن أُولي العزم من الرُّسل ، غير أنّهم يعدون آدم منهم ، والمشهور عند سائر المسلمين أنّه ليس منهم ، ويضيفون إليهم محمد بن إسماعيل باسم القائم؛ وإليك أسماءهم : آدم ، نوح ، إبراهيم ، موسى ، عيسى ، محمد ، القائم.
    1 ـ راحة العقل : 421 ـ 422.
    2 ـ مصطفى غالب : في مقدمة كتاب الينابيع : 17.


(206)
    وكلّ واحد منهم رسول ناطق ، يتقدّمه إمام مقيم ويتلوه الاَئمة الاَساس ـ المتم ـ المستقر ـ المستودع ـ وهم يتعاملون مع القائم الذي يبتدأ به الدور ، أعني : محمد بن إسماعيل ، معاملة الرسول الناطق ، ولا يشترط أن يكون في كلّدور إمامٌ مستودعٌ ، فإنّه إنّما يتسلّم شوَون الاِمامة في الظروف الاستثنائية ، وكأنّه ينوب عن الاِمام المستقر كما سيتضح معنى ذلك.
    ولا يخفى أنّ في صميم العقائد الاِسماعيليّة تناقضاً وتعارضاً ، فمن جانب نراهم يصرّحون بخاتميّة النبوة والرسالة ، وأنّ القرآن حجّة خالدةً إلى يوم القيامة ، وأنّه لا ينسخ القرآن إلاّ بالقرآن. (1)
    ومع ذلك فمحمد بن إسماعيل ، المعبّر عنه بالقائم عندهم من النطقاء (2)
    ولاَجل إيضاح ذلك سوف نبحث عن عقيدتهم في الاِمامة إن شاء اللّه.

7 ـ في المعجزات التي يأتي بها الرسل
    قال علي بن محمد الوليد : إنّ المعجزات التي ترد وقت إظهار الشرائع من الرسول حقيقية ، وإنّها على ثلاثة أقسام :
    الاَوّل : خرق العادة في تكوين العالم بظهور ما يعجز العقل عن وجوده من الاَُمور الطبيعية ، من ردّ ما في الطبيعة عن قانونه المعهود لقهر العقول ، ودخولها تحت أمر المعقولات ، ومن أجله يعلم أنّه متصل بالفاعل ، الذي لا يتعذّر عليه متى أراد ، إذ كلّما في العالم لا يتحرك إلاّ بمادته وتدبيره.
    الثاني : ما يأتي به الشخص المبعوث من النطق المنسوب إلى من أظهر له المعجزات ، وأعجز كافّة أهل الدور عن الاِتيان بمثله.
    1 ـ تاج العقائد : 98.
    2 ـ وقد مرّ كلامهم في ذلك ص 92. وما علقنا عليه فلاحظ.


(207)
    الثالث : جميع الفضائل الموجودة في أشخاص العالم فيه حتى لا يوجد فوق كماله كمال في وقته. (1)
    أقول : إنّ القسم الثاني الذي يريد به القرآن الكريم داخل تحت القسم الاَوّل ، فلا وجه لعدّه قسماً ثانياً.
    والقسم الثالث : كمالات النبي ، ولا تعدّ معجزة.

8 ـ في أنّ الرسول الخاتم أفضل الرّسل
    يُفضَّلُ رسول اللّه على سائر الرسل والاَنبياء من وجوه ، أفضلها الوجوه التالية :
    أ : هو أنّه سبحانه جعل شريعته موَيّدة لا تُنسخ أبداً ، وجعل الاِمامة في ذريّته إلى قيام السّاعة ، ولم يُقدَّر ذلك لغيره.
    ب : انّاللّه عزّوجلّ أعطاه الشفاعة في الخلق. ولم يعطها إلى نبي قبله.
    ج : انّالاَنبياء قبله بطلت معجزاتهم من بعدهم ، ومعجزة محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وهي « القرآن » ثابتة موَيّدة لا تفنى أبداً إلى حين زوال أحكام الدنيا. (2)

9 ـ في أنّ الشريعة موافقة للحكمة
    إنّ الحكمة والفلسفة العقليّة ، هي والحكمة الشرعيّة سواء ، لاَنّ اللّه سبحانه خلق في عباده حكماء ، وعقلاء ، ومحال أن يشرع لهم شرعاً غير محكم وغير معقول ، ولا يبعث برسالته وشرعه إلاّ حكيماً عاقلاً مدركاً مبيّناً لِما تحتاجه العقول ، ويكلّف لها بما يسعدها ويقوّي نورها ويعظّم خطرها. (3)
    1 ـ تاج العقائد : 97.
    2 ـ تاج العقائد : 59 ـ 60.
    3 ـ المصدر نفسه : 101.


(208)
10 ـ في أنّالشريعة لها ظاهر وباطن
    يقول علي بن محمد الوليد : إنّالشارع قد وضع أحكام شريعته وعباداتها من الطهارة والصلاة والزكاة والصيام والحجّ وغير ذلك ، مضّمنة للاَُمور العقليّة والاَحكام والمعاني الاِلهيّة ، وما يتخصص منها من الاَُمور الظاهرة المشاكلة لظاهر الجسم ، والاَُمور الباطنة المشاكلة للعقل ، والنفس ، وكلُّ من حقق ذلك كانت معتقداته سالمة. (1)
    أقول : هذا المقام هو المزلقة الكبرى للاِسماعيلية الموَوّلة ، إذ كلُّ إمام وداعٍ ، يسرح بخياله فيضع لكل ظاهر باطناً ولكلّ واجب حقيقةً ، يسمي أحدهما بالشريعة الظاهرية والآخر بالباطنية من دون أن يدلّ عليه بدليل من عقل أو نقل ، فكلُّ ما يذكرونه من البواطن للشريعة ذوقيات ، أشبه بذوقيات العرفاء في تأويل الاَسماء والصفات وغير ذلك ، وكأنّالجميع فروع من شجرة واحدة. وستوافيك نظرية المثل والممثول في فصل خاص ، وتقف على تأويلاتهم.
    1 ـ تاج العقائد : 101.

(209)
الاِسماعيلية والاَُصول الخمسة
4
عقيدتهم في الاِمامة
    تحتل الاِمامة عند الاِسماعيلية مركزاً مرموقاً حيث جعلوها على درجات ومقامات وزودوا الاَئمة بصلاحيات واختصاصات ، ولتسليط الضوء على عقيدتهم فيها نبحث في مقامين :

المقام الاَوّل : الاِمامة المطلقة
    إنّدرجات الاَئمّة ورتبهم لا تتجاوز عن الخمسة من دون أن تختص بالشريعة الاِسلامية ، بل تعم الشرائع السماوية كلّها ، وبما أنّمذهب الاِسماعيلية أُحيط بهالة من الغموض عبر القرون لم يكن من الممكن أن يقف أحداً عليها إلاّطبقة خاصة من علمائهم ، وكانوا يبخلون بآرائهم وكتبهم على الغير ، غير أنّ الاَحوال الحاضرة رفعت الستر عن كتبهم ومنشوراتهم ، فقام المستشرقون وفي مقدّمتهم « ايفانوف » الروسي وتبعه عدد آخر من المحقّقين بنشر آثارهم ، وعند ذلك تجلّت الحقيقة بوجهها الناصع ، كما قام الكاتبان الاِسماعيليان عارف تامر ومصطفى غالب ببذل الجهود الحثيثة في نشر آثار تلك الطائفة ، فكشفا النقاب عن وجه العقيدة الاِسماعيلية وبيّناها بوجه واضح خالياً من الغموض والتعقيد الموجودين في عامة كتب الاِسماعيلية وإن كان بين الكاتبين اختلاف في بعض


(210)
الموارد ، ونحن نعتمد في تفسير درجات الاِمامة على كتاب « الاِمامة في الاِسلام » للكاتب عارف تامر ، وإليك بيانه :
    درجات الاِمامة خمس وهي :
    1 ـ الاِمام المقيم.
    2 ـ الاِمام الاَساس.
    3 ـ الاِمام المتم.
    4 ـ الاِمام المستقر.
    5 ـ الاِمام المستودع.
    و ربما يضاف إليها رتبتان الاِمام القائم بالقوة ، و الاِمام القائم بالفعل.
    فالمهم هو الوقوف على هذه الدرجات.
    يعتقد عارف تامر في كتابه « الاِمامة في الاِسلام » انّ هذه الدرجات ظلّت حقبة طويلة من الزمن مجهولة لدى الباحثين إلاّ طبقة خاصة من العلماء ، أو لا أقلّ في التقية والاستتار و الكتمان.

1 ـ الاِمام المقيم
    هوالذي يقيم الرسول الناطق ويعلّمه ويربّيه ويدرجه في مراتب رسالة النطق ، وينعم عليه بالاِمدادات وأحياناً يطلقون عليه اسم « رب الوقت » و « صاحب العصر » ، وتعتبر هذه الرتبة أعلى مراتب الاِمامة وأرفعها وأكثرها دقة وسرية.

2 ـ الاِمام الاَساس
    هو الذي يرافق الناطق في كافة مراحل حياته ، ويكون ساعده الاَيمن ،
بحوث في الملل والنحل ـ جلد الثامن ::: فهرس