الى

المتولّي الشرعيّ للعتبة العبّاسية المقدّسة: فتوى المرجعية الدينيّة العُليا حمت العراق وغيره وأوّل من هبّ ودافع عن البلد هم أبناء العراق..

ألقى بعد ظهر هذا اليوم الخميس (18شعبان 1437هـ) الموافق لـ(16آيار 2016م) المتولّي الشرعيّ للعتبة العبّاسية المقدّسة سماحة السيد أحمد الصافي(دام عزّه) كلمةً خلال حفل افتتاح مهرجان فتوى الدفاع المقدّس المقامة فعالياته حاليّاً برعاية العتبة العبّاسية المقدّسة (قسم الشؤون الفكرية والثقافية). وفي ما يلي نصّها:
"لا يخفى على حضراتكم أنّ مسألة القوّة، هي في حالتها الإيجابية تمثّل الدرع الواقي، سواءً كان لدين أو فكر أو أرض أو عرض.
ولذا كما أنّ الإنسان في تركيبته عنده فكرٌ في عقله، أيضاً عنده يد، وهذه اليد يحتاج فيها أن يدافع عن نفسه، ولعلّ غريزة الدفاع عن النفس غريزة فطرية مركوزة عند جميع الكائنات".
وأضاف: "إذا تعرّض الإنسان الى خطر فهو سيحاول أن يدافع عن نفسه، وإنّ ديننا الحنيف وبلادنا الإسلامية، تعرّضت قطعاً الى مجموعة من الأخطار خلال فترات تاريخية متفاوتة، وهذه الأخطار في بعض الحالات قد جاءت بنتائج سلبية على مجموع بلادنا.
فقُضِمت بعض الأراضي من بعض بلداننا، وانتهى الحال بها الآن وهي ليست داخل الرقعة الجغرافية الإسلامية، وفي بعض الحالات وقف فيها المسلمون ودافعوا بقوّة عن حضارتهم ودينهم وتراثهم".
مضيفاً: "وهذه المسألة لا تتوقّف عند الأمور العلمية والفكرية والثقافية، فالإنسان عندما يقرأ يجد أنّ هناك عادة نزوع الى الظلم والاعتداء من قبل البعض على غيرهم.
وكانت الأراضي الاسلامية تملك الحظّ الكثير من اعتداء الآخرين عليها، وبين فترة وأخرى، ولكن أحبّ أن أنوّه الى قضيّة مهمّة، وهي أهميّة إدراك الخطر.
نحن تكلّمنا قبل قليل أنّ الإنسان وبقية الكائنات إذا تعرّضوا الى خطر فإنّها غريزياً تدافع عن نفسها، لكن في بعض الحالات قد لا يُمكن إدراك الخطر، فمن يدركه؟ إذ أنّ الناس قد تعتقد أنّ ما يجري هو أمرٌ عاديّ، لكن واقعاً هو يتضمّن خطورة، وسأستعين ببعض الشواهد التاريخية لشاهد ما ادّعي".
وتابع السيد الصافي: "طبعاً الذي يحدّد الخطر هو مَنْ يكون عادةً في أعلى حالةٍ من حالات المسؤولية، وعندما يحدّد الخطر لابُدّ أن يُحدّد أيضاً كيفيّة درئه. وبحمد الله تعالى، نحن عموم المسلمين، وأخصّ بالذكر الطائفة الشيعية المباركة، لدينا نظامٌ لحياتنا، مبنيٌّ على هرم وسلسلة فكرية واضحة هي عنوان وكيان المرجعية.
وهذا الكيان هو واقعاً من تربية وتأسيس الأئمّة الهداة(عليهم السلام)، أعطوا هذه الطائفة منعة وحصانة من خلال هذا الكيان المهمّ، وهو كيان المرجعية".
مستدركاً: "وبحمد الله تعالى المرجعية على مرّ التاريخ كانت نِعْم المحافظ على هذا الإرث الدينيّ، وقد أدركت في مراحل متعدّدة بعض الأخطار دون غيرها، ووقفت أمامها وقفةً أذهبت هذه الأخطار بحمد الله تعالى، والشواهد كثيرة على ذلك، لكن أنا أستعين ببعض الشواهد التي قد لا تكون غائبةً عن الأذهان.
في بعض الحالات تتهدّد البلاد الإسلامية أخطارٌ اقتصادية، ولا يخفى على حضراتكم أنّ التهديد الاقتصادي لا يقلّ خطورة عن التهديد السياسي، بل قد يصل التهديد الاقتصادي لسلب الإرادة والسيادة الوطنيّتين، فيكون أمر دولة ما ليس بيدها تماماً، وتكون سيادتها محض صورة ليس إلّا".
مبيّناً: "كمثالٍ لمحاولة تعرّض لها المسلمون ربّما قبل (160) عاماً، هي محاولة سلخ وسلب المسلمين اقتصادهم، عن طريق بعض الشركات البريطانية المستثمرة لخيراتهم، فمن خلال بعض الشركات التي حاولت أن تستحوذ على مادّة (التنباك)، وأرادوا أن يجعلوا اقتصاد البلاد الإسلامية بيدهم من خلال هذه الشركات، وهذا قطعاً يمثّل تهديداً خطيراً على الأمّة، بعد أن عجز المسلمون عن ثني مَنْ بيدهم القرار السياسيّ عن هذه الفكرة، لأنّها تُصادر كلّ جهود وأموال البلاد الإسلامية وحصرها بيد جهةٍ غير مرتبطة بالإسلام أصلاً.
فبدأت المحاولات السلمية لكنّها لم تُجدِ، فاضطرّ المسلمون أن يلجأوا الى المرجعية لحلّ الإشكال، وأيضاً المرجعية حاولت مراراً دون فائدة، الى أن أصدرت فتواها الشهيرة (السيد محمد حسن الشيرازي رضوان الله تعالى عليه كان في سامراء) وأصدر فتواه الشهيرة، وحرّم هذا العمل، حفاظاً على اقتصاد المسلمين، وفعلاً الفتوى أثّرت أثرها البليغ، وتراجع صاحب القرار السياسيّ عن فكرته، وأصبحت هذه الفتوى تمثّل القوّة المهمّة التي يمارسها المرجع، إذا شعر أنّ هناك خطراً حقيقيّاً يتهدّد البلاد الإسلامية مع أنّه خطرٌ اقتصادي".
ثم تابع قائلاً: "بعد ذلك ننتقل الى العراق الذي كان تحت احتلال الدولة العثمانية، وعندما تصارعت القوى الكبرى واستولت عليه وكان العراق مسرحاً لها، هبّ العلماءُ في النجف الأشرف وكربلاء المقدّسة بعد تشخيصهم وشعورهم بوجود خطرٍ حقيقيّ يتهدّد كيان البلد، وأصدروا فتاواهم الواسعة والمعروفة بوجوب مقاتلة العدوّ، واستجاب لهذه الفتوى تقريباً أغلب سكّان العراق، وبحمد الله تعالى تحقّق ما تحقّق من نتائج.
وعندما هُدِّد المسلمون بعقيدتهم في النصف الأوّل من القرن العشرين، ووفدت بعض الأفكار التي لا تتناسب مع العقيدة والتراث الفكري والتربية الإسلامية، وعندما لم توفّق الجهود السلمية لثني بعض المتصدّين لذلك الخطر، تصدّت له مرجعيّة النجف الأشرف ومارست فتواها الشهيرة من خلال سماحة المرجع السيد محسن الحكيم رضوان الله تعالى عليه وأوقفت المدّ الأحمر في وقتها".
وأضاف: "واليوم.. قبل سنتين.. مرّ العراق بظرف خطير... فضلاً عن كونه يمرّ منذ سنوات بمشاكل أمنية حقيقية، وقد تكلّم من تكلّم، وبإشارات ورسائل واضحة للمتصدّين السياسيّين، بأنّه لابُدّ من أن تحلّوا المشاكل الأمنيّة بشكل جذري..
لكن الإخوة للأسف الشديد لم يصغوا ولم يلتفتوا، الى أن وصل الخطر الى بعض بلاد العراق، بأن تضيع بيد طغمة وحشيّة تسمى (داعش)، وهذه الطغمة مبنيّة واقعاً على الإرهاب، ليس لها أيّ فكر غير القتل وإلغاء الآخر، وهي قد بدأت تعمل وتنشط في هذه المنطقة من العالم -كما هو غير خافٍ على المتتبّع- الى أن تهدّد خطرها البلاد بشكلٍ حقيقيّ، وأوشك أن يكتسح العراق ويعبره إلى غيره.
فجاء الإنقاذ هذه المرّة أيضاً من المرجعية الدينيّة العُليا في النجف الأشرف بفتوى الدفاع المقدّس، لتوقف هذا الخطر وتـُلزم كلّ من يستطيع حمل السلاح ليقف بوجه هذه الهجمة على نحو المقدار الذي يمنع هذا الخطر".
وبيّن قائلاً: "وبحمد الله تعالى هبّ الإخوة الأعزّاء والمقاتلون لتنفيذها، والى الآن هم يُمارسون هذا الدور العظيم، ليوقفوا هذا الخطر، وإن شاء الله سينتهي من العراق والمنطقة الى غير رجعة. الشيء الذي ينبغي أن ننوّه عنه، سنعرفه حين نرجع إلى ثورة العشرين وكيف ضاعت فيها المعلومات..
فرغم كلّ الجهود التي بُذلت، نجد أنّ التاريخ عندما ينطق، نراه يصادِر كثيراً من الجهود وينسب بعض الأفعال والأقوال الى غير أهلها زوراً وبهتاناً. فنحن غير حريصين على توثيق تراثنا، ولو كنّا كذلك فمن الطبيعي حصول فقدان هذا التراث..
لذا سيكون هذا التراث بلا صاحب، ومن لا صاحب له فسرقته ونسبة من لا يرتبط به اليه أمرٌ طبيعيّ، والناس تكبر وتتثقّف على شيء مغلوط!!! ويصبح أهل التراث حائرين في استقصائه... والأجيال في حيرة تفتّش عن تراثها، فلا تجده، مع أنّه ملكها، وهي التي صنعته، لكنّها لا تجده!!!".
ثمّ أوضح السيد الصافي: "لاحظ الآن العراق عندما يصنّف عالميّاً بالتاريخ القديم، يُصنّف كبلدٍ عريق التراث... لكن أين تراثنا؟! ما هو الشيء الذي نملكه في العراق على نحو الأعيان والمشاهدات؟! هذا التراث أغلبه سُرق، وقد نُسِب الى غير أهله!!! فأصبح العراق يتحدّث عن أمجاد ليس عليها شاهد!!! هذه الفجوة ما بين الحضارة السابقة والحالية من أسبابها فقدان الكثير من الشواهد"..
مؤكّداً: "هناك فجوات، حتى المؤرّخ عندما يريد أن يتكلّم بها، يجد صعوبة في تعزيز كلامه بالشواهد والدلائل، ليطمئنّ لصحّة استنتاجاته، لكن بالنتيجة يحتاج الى شاهدٍ لا يجده، والسبب حالة الإهمال واللامبالاة في التدوين، أو حالة تعرّض البلد الى مجموعة عوامل سُرقت بسببها الحضارة منه. علينا أن لا نكرّر هذا الخطأ، ولذلك حرصنا في أكثر من مناسبة على مسألة التوثيق لكلّ مجريات هذه المعركة، وهذه الفترة من تأريخ البلد. هذه الفتوى المباركة التي صدرت من المرجعية الدينية العُليا في النجف الأشرف، والتي حمت العراق وغيره"..
مبيّناً: "وأوّل من هبّ، وأوّل من دافع عن البلد، هم أبناء العراق، هؤلاء الذين بذلوا الغالي والنفيس ليمنعوا خطر داعش عن العراق، ولا زالوا بحمد الله تعالى الى الآن يدافعون. هذه حقيقة لابُدّ أن تؤرّخ دائماً، لابُدّ أن تُعقد المؤتمرات.. يجب عقد المؤتمرات والندوات لتعزيز هذه القضية، لأنّ أمثال هذه الفتوى تاريخيّاً ليست كثيرة، نعم.. قلنا أنّ هناك من يدرك الخطر، وقد أدركت المرجعية ذلك، وعملت بوظيفتها والحمد الله.. الناس أيضاً أدركوا الخطر، وكانوا ينتظرون أمر وفتوى المرجع، ونفّذت فعلاً أمرها.. هذه الحقائق التاريخية إذا لم توثّق ستُسرق، وإذا سُرقت ستُمنح هذه الإنجازات لغير أهلها.. اقرأوا التاريخ.. فيه الكثير من السرقات!! فضيلةٌ لزيد ذهبت الى عمر.. وسيّئة عند زيد تلصق أيضاً بعمر!! الإنسان الذي لا يوثّق تاريخ نفسه يجب أن لا ينتظر من الآخرين توثيق تاريخه".
وأضاف: "لو نظرنا الى العالم المتمدّن سنرى أنّ قليلاً من يكون بسنّ الثمانين فأكثر ممكن أن يتصدّى للدفاع عن بلده، العالم المتمدّن الذي يتكلّم بكلّ وعي وإدراك، ستجد القليل من أفراده يفعل ذلك، بينما عندنا ستجد العشرات. إنسان عمره اثنان وثمانون أو ثلاثة وثمانون، سنحصل على أرقام قليلة منهم في الغرب للدفاع عن بلدهم، لكن في العراق في هذه الأيّام، هذه الأرقام أصبحت عادية، لا نتفاجأ بها، أمّا ما بين السبعين والثمانين فحدّث ولا حرج، لاشكّ أنّ هذا تاريخٌ نعتزّ به، عندما تكون عندنا هذه الطاقات، فالأمل معقود بالنصر..
فمثلاً.. يكون الابنُ عزيزاً قطعاً على أمّه.. لكن عندما تتعامل معه في لحظة الشهادة كأنّها زفّته الى عرسه، فهو أمرٌ عجيب.. صار عندنا عادياً.. هذه القيم عظيمة"..
وتابع: "نحن مشكلتنا إخواني أنّنا شعب لا نوثّق، أنّنا نتساهل مع تاريخنا، أنّنا نجود بما عندنا للآخرين، والآخر لا يجود بما عنده لنا.. لابُدّ أن نكون حريصين جدّاً على مسألة التوثيق، اكتبوا أيّ شيء عن هذه المعارك، فبعد سنين سيخاطبنا الأبناء الرضّع الآن وسيطالبوننا بتاريخنا الذي أضاعه البعض، هذا الرضيع لا يعلم ماذا جرى على بلده الآن.. لا يعلم أنّ هناك أباً قد فقد خمسة وينتظر البقية ليقدّمهم قرابين للوطن...
لكن إذا قرأ ذلك قطعاً سيعتزّ بهذه الأرض التي سفكت فيها دماء عزيزة وطاهرة، فمن أين سيعلم بالحقائق، إذا كان الشعب لا يوثّق؟! والتوثيق ليس فقط بالكتاب، التوثيق في كلّ شيء، حتى مقتنيات الشهيد والجريح، الصور التي تمثّل البطولة لابُدّ من توثيقها".
وأضاف: "واقعاً الإعلام عندنا فيه تقصير، وأنا عن نفسي داعمٌ للإعلام وأشجّعه، أقول على الإعلام أن يبرّز هذه القضية.. لا يهمّه من أيّ جهة كانت، المهم الدفاع عن البلد.. يجب أن لا يكون صاحب الإعلام المتحزّب مسلّطاً الضوء على جماعته فقط، هذا غير صحيح، لأنّ هذه أمانة ومسؤولية بلد.
مستقبلاً سنحتاج لإثبات مصداقيّتنا.. سنحتاج كلّ شاهدٍ وتوثيق في سبيل أن نقول نحن هنا.. الآن المؤرّخ عندما يتحدّث عن فترة سابقة، يحتاج النصّ في بعض الحالات، وقد لا يجده.. فبالنتيجة سيكون الإنسان على حقّ، لكن حجّته ضعيفة"..
وأوضح السيّد الصافي: "التوثيق إخواني شاهدٌ حيّ، ونحن نحتاج التوثيق في قضيّتين، نحتاجه بهذا المقدار:
1- نحتاجه لبيان بسالة وشجاعة هؤلاء الأبطال الذين يقاتلون الآن.
2- نحتاجه لبيان خسّة ودناءة الطرف الآخر من الدواعش."
مبيّناً: "هذا التوثيق الإعلامي مهمّ، فلولا الحركة الموفّقة والمخطَّط لها من سيّد الشهداء(سلام الله عليه) في العائلة الكريمة، والسيدة زينب(سلام الله عليها) وهذه الخطب البليغة مضموناً وشكلاً، لولا هذا الجانب الإعلاميّ لبقيت كثيرٌ من المسائل غير معلومة، لكن هذا التوثيق الإعلامي الذي مارسته (عليها السلام)، وبيّنت من هو الحسين؟ ومن هو يزيد؟ والإمام زين العابدين(عليه السلام) حثّ الأئمّة الأطهار على زيارة الحسين(عليه السلام)، هذا نوع من التوثيق والتأكيد على أحقّية جهة وبطلان جهة".
واختتم السيد الصافي: "نحن الآن نعيش أزمنة أكثر تطوّراً في قضية الإعلام، لابُدّ قطعاً أن تكون هناك مسؤولية، إنّنا نحتفي اليوم ونحتفل بهذه الذكرى للفتوى، ونسأل الله تعالى في الذكرى الثالثة أن يكون البلد على غير هذه الحالة، ليست فيه أيّ شعرة من شعر هؤلاء الأنجاس، ويكون العراق وأهله والعتبات المقدّسة في أمن وأمان".
تعليقات القراء
لايوجد تعليقات لعرضها
إضافة تعليق
الإسم:
الدولة:
البريد الإلكتروني:
إضافة تعليق ..: