في اليوم الخامس والعشرين من شوال عام (148) للهجرة فُجِع أهلُ بيت النبوّة(صلوات الله عليهم) ومحبّوهم وموالوهم برحيل الإمام جعفر بن محمّد الصادق(عليه السلام)، سادس الأئمّة الأطهار من أهل البيت المعصومين الذين نصّ الرسول(صلّى الله عليه وآله) على خلافتهم من بعده.
وقد استُشهد (سلام الله عليه) بحسب ما رواه الشيخ عبّاس القمّي في كتابه (منتهى الآمال) بالعنب المسموم الذي أطعمه به المنصور، وكان عمره الشريف حين استشهاده خمساً وستّين سنة.
أدرك (عليه السلام) جدّه الإمام علي بن الحسين زين العابدين(عليه السلام)، وتربّى في حضن أبيه الإمام محمد الباقر(عليه السلام)، وعنه أخذ علوم العقيدة والشريعة الإسلاميّة ومعارف الدين القويم، ويُذكرُ أنّه (عليه السلام) أقامَ مع جدّه علي بن الحسين اثنتي عشرة سنة، ومع أبيه الباقر بعد جدّه تسع عشرة سنة، وعاش بعد أبيه أيام إمامته أربعاً وثلاثين سنة.
وروى الشيخ الطوسي وكذلك الكليني (قدّس سرّهما) عن سالمة مولاة أبي عبد اللّه (عليه السلام) أنّها قالت: كنت عند أبي عبد اللّه (عليه السلام) حين حضرته الوفاة فأُغمِي عليه، فلمّا أفاق قال: أعطوا الحسن بن عليّ بن الحسين -وهو الأفطس- سبعين ديناراً، وأعطوا فلاناً كذا وكذا وفلاناً كذا وكذا، فقلت: أ تُعطي رجلاً حمل عليك بالشفرة؟ فقال: ويحك أما تقرئين القرآن؟ قلت: بلى، قال: أما سمعت قول اللّه عزّ وجلّ: (وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ)؟.
فقال: أ تريدين على أن لا أكون من الذين قال اللّه تبارك وتعالى: (وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ )؛ نعم يا سالمة إنّ اللّه خلق الجنّة وطيّبها وطيّب ريحها، وإنّ ريحها لتوجد من مسيرة ألفي عام، ولا يجد ريحها عاقٌّ ولا قاطعُ رَحِم.
روى الشيخ الكليني عن الإمام موسى الكاظم(عليه السلام) أنّه قال: أنا كفّنت أبي في ثوبين شطويّين مصريّين كان يُحرم فيهما، وفي قميص من قمصه، وفي عمامةٍ كانت لعليّ بن الحسين(عليه السلام) وفي بردٍ اشتراه بأربعين ديناراً.
وروى أيضاً أنّه لمّا قُبِض أبو جعفر(عليه السلام) أمر أبو عبد اللّه(عليه السلام) بالسراج في البيت الذي كان يسكنه حتّى قُبض أبو عبد اللّه(عليه السلام)، ثمّ أمر أبو الحسن(عليه السلام) بمثل ذلك في بيت أبي عبد اللّه(عليه السلام).
وروى الشيخ الصدوق عن أبي بصير أنّه قال: دخلتُ على أمّ حميدة أعزّيها بأبي عبد اللّه(عليه السلام)، فبكت وبكيتُ لبكائها، ثمّ قالت: يا أبا محمد لو رأيت أبا عبد اللّه(عليه السلام) عند الموت لرأيت عجباً، فتح عينيه ثمّ قال: اجمعوا لي كلّ من بيني وبينه قرابة.
قالت: فلم نترك أحداً إلّا جمعناه، قالت: فنظر إليهم ثمّ قال: إنّ شفاعتنا لا تنال مستخفّاً بالصلاة.
ورُوي عن عيسى بن دأب أنّه قال: لمّا حُمل أبو عبد اللّه جعفر بن محمد(عليه السلام) على سريره وأُخرج إلى البقيع ليُدفن، قال أبو هريرة العجلي من شعراء أهل البيت المهاجرين هذه الأبيات:
أقول وقد راحوا به يحملونه على كاهلٍ من حامليه وعاتِقِ
أتدرون ماذا تحملون إلى الثرى ثبيراً ثوى من رأس علياء شاهِقِ
غداة حثا الحاثون فوق ضريحه تراباً وأولى كان فوق المَفارِقِ
وحُمِلَ الجثمانُ المقدّس على أطراف الأنامل تحت هالة من التكبير، وقد غرق الناسُ بالبكاء، وهم يذكرون فضل الإمام وعائدته على هذه الأُمّة، بما بثّه من الطاقات العلميّة التي شملت جميع أنواع العلم، وجيء بالجثمان الشريف إلى مقبرة البقيع، فدُفِنَ في مقرّه الأخير بجوار جدّه الإمام زين العابدين وأبيه الإمام محمد الباقر(عليهما السلام).
فسلام الله عليه يوم وُلد ويوم مات مسموماً شهيداً ويوم يُبعث حيّاً.