يستذكر محبّو وأتباعُ أئمّة أهل البيت(عليهم السلام) في مثل هذه الأيّام أواخر شهر جمادى الآخرة، ذكرى رحيل السيّد محمد بن الإمام عليّ الهادي(عليهما السلام) في مدينة بلد القريبة من مدينة سامرّاء، حيث المرقد الطاهر لأبيه الإمام الهادي وأخيه الإمام الحسن العسكريّ(عليهما السلام).
وهو صاحبُ المرقد الطاهر المعروف والملقَّب عند العامّة والخاصّة بـ(سبع الدجيل)، وتوسّم بهذا اللقب لعدم تعرّض قطّاع الطرق في الأزمنة القديمة لزائريه، وذلك لخشيتهم منه ولكرامته ومنزلته عند الله سبحانه وتعالى بعد المعاجز التي ظهرتْ لهم.
ويذكر أصحابُ السِيَر أنّه (عليه السلام) وُلد في المدينة المنوّرة في قريةٍ يقال لها (صريا)، وهي قريةٌ أسّسها الإمامُ موسى بن جعفر(عليهما السلام) على بُعد ثلاثة أميال من المدينة المنوّرة.
وكان أكبر ولد الإمام الهادي(عليه السلام)، لذا كان الكثيرُ من الشيعة في زمان أبيه الإمام الهادي(عليه السلام) يظنّون أنّه الإمام بعد أبيه، ولكنّ موته في حياة أبيه أوضح أنّ الإمام من بعده هو الحسنُ العسكريّ(عليه السلام).
مكانته وعلمه: كان السيّد محمّد جليل القدر، عظيم المنزلة، عالماً عابداً، وكانت جلالته وعَظَمة شأنه أكثر من أن يُذكر، قال السيّد محسن الأمين (جليل القدر عظيم الشأن، كانت الشيعةُ تظنّ أنّه الإمام من بعد أبيه عليه السلام، فلمّا تُوفّي نصّ أبوه على أخيه أبي محمّدٍ الحسن الزكيّ عليه السلام. وإنّه عليه السلام له مقامٌ لم ننحِّهِ عنه ظلماً ولم يقف دونه سوى القدر الذي لا مردّ له، ولم يُقِلْه عن الإمامة قصورٌ في سيرته أو تقصيرٌ من همّته، لكنّه وعاءٌ دون أمر الله، وأيضاً الإمامة وعاءٌ لا يوضع فيه أحد دون أمر الله، ما كان لمؤمنٍ الخِيَرةُ في ذلك.
إنّ الإمامةَ إنْ عدَتْكَ فلمْ تكُنْ = تعدوكَ كَلّا رِفعةً ومَقاما
يكفي مقامك أنّه في رتبةٍ = لولا (البدا) لأخيك كُنتَ إماما
مجيؤه إلى سامراء: تركه أبوه الإمامُ الهادي(عليه السلام) طفلاً في المدينة المنوّرة لمّا استُدعِي وأُتِي به إلى العراق، ولمّا كبر السيّد محمّد قدِم إلى سامراء لرؤية أبيه، ثمّ عزم على الرجوع إلى الحجاز، فلمّا بلغ منطقة بلد –على بُعد تسعة فراسخ من سامراء من منطقة دجيل على طريق بغداد- مرض وتُوفّي فيها (سلام الله عليه).
وفاته: لمّا بلغ الرابعة والثلاثين من عمره الشريف مَرِضَ مرضاً شديداً مفاجِئاً لم يُمهلْه طويلاً، حتّى فارق الحياة في مكان قبرِهِ الشريف المبارك ودفن فيه في (الآخر من جمادى الثانية سنة 252هـ)، وقيل مات مسموماً شهيداً ولا يُستبعَدُ ذلك، لأنّه كان أكبرَ أولاد الإمام الهادي(عليه السلام) وله مؤهّلاتٌ عالية، فظنّ الأعداء أنّه سيكون الإمام من بعد أبيه (عليه السلام)، فسعوا إلى قطع هذا الطريق أمامه، ولا شكّ في أنّ السلطة العبّاسية في زمن الإمام علي الهادي والإمام الحسن العسكريّ(عليهما السلام) كانت تراقبهما بحذرٍ شديد، ولهذا استدعَتْ الإمامَ الهادي(عليه السلام) من المدينة المنوّرة إلى سامراء ليكون تحت أنظارهم، وإنّ منهج التصفية الجسديّة كان متَّبَعاً من قِبل بني العبّاس وقد مورس مع آباء السيّد محمد وأجدادِه بكلّ وضوح.
وروى العارفُ الكيلاني أنّه قد تصدّع قلبُ أبي محمد الحسن العسكريّ(عليه السلام)، فقدْ فقدَ شقيقه الذي كان عنده أعزّ من الحياة، وطافتْ به موجاتٌ من اللوعة والأسى والحسرات، وخرج وهو غارقٌ بالبكاء والنحيب لهول مصيبته بأخيه وتصدّعت القلوب لمنظره الحزين، وألجمت الألسن، وترك الناس بين صائحٍ ونائحٍ قد نخر الحزنُ قلوبهم.
وجهّز الإمامُ الهادي(عليه السلام) ولده أبا جعفر (السيد محمد) فغسّله وكفّنه وصلّى عليه، وحمل جثمانه الطاهر تحت هالةٍ من التكبير تحفّ به موجاتٌ من البشر وهي تعدّد فضائله، وتذكر الخسارة الفادحة التي مُنِي بها المسلمون، وجيء به إلى مقرّه الأخير فواراه فيه.