في مثل هذا اليوم من شهر رجب الأصبّ في سنة (57ﻫ) استبشر المحبّون والموالون لأهل البيت(عليهم السلام) وابتهجوا في المدينة المنوّرة، مثلما استبشر أهل بيت النبوّة وموضع الرسالة ومختلف الملائكة ومهبط الوحي ومعدن الرحمة وخزّان العلم ومنتهى الحلم وأصول الكرم وقادة الأمم وأولياء النعم وعناصر الأبرار ودعائم الأخيار وساسة العباد وأركان البلاد وأبواب الإيمان وأمناء الرحمن وسلالة النبيّين وصفوة المرسلين وعترة خيرة ربّ العالمين بولادة قمرٍ زاهر من أقمار آل البيت(عليهم السلام) وهو الإمام محمّد الباقر(عليه السلام) باقر العلوم المحمّديّة وسراجها الوهّاج وشمس المعارف العلويّة وبحرها الموّاج قطب الدين وسيّد العالمين وخامس الأئمّة الميامين.
الإمام الباقر(عليه السلام) هو أبو جعفر محمّد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب(عليهم السلام) وأُمّه السيّدة فاطمة بنت الإمام الحسن المجتبى(عليه السلام)، وزوجته السيّدة أُمّ فروة بنت القاسم بن محمّد بن أبي بكر وهي أُمّ الإمام جعفر الصادق(عليه السلام)، وله زوجات أُخر. وهو بحر في العلم وقد بلغ من المعرفة ذروتها التي لا يبلغها بالغ، لذا كان لقبه (باقر العلم) منطبقاً عليه تمام الانطباق، وكان يهابه سلاطينُ بني أميّة وخاصتهم بسبب مكانته العظمى بين العلماء وبين الناس، فما كانوا يجدون سبباً يتّخذونه ذريعةً للبطش به، إلى أن اضطرّوا إلى قتله بالسمّ سراً.
عرف(عليه السلام) بمنطقه وقوّة حججه في المجادلات الفقهية والكلامية وفي أحكام الشريعة الغراء، وكانت له مجالس مع علماء زمانه الذين كانوا يقصدون ليسألوا ويناقشوا ويستفيدوا منه(سلام الله عليه).
من ألقابه: الباقر، الشاكر، الهادي... وأشهرها الباقر، وقد جاء لقب الإمام(عليه السلام) بالباقر من قبل رسول الله(صلى الله عليه وآله)، ومعنى الباقر -كما في المعاجم اللغوية- المتبحّر بالعلم والمستخرج غوامضه وأسراره والمحيط بفنونه، وامتاز(عليه السلام) على من سواه في جميع المجالات -العقائدية والفقهية والتفسيرية والحديثية والعرفانية- ممّا كان مثار دهشة وإعجاب أعلام الفكر والأدب وقتذاك.
عاش(عليه السلام) سبعاً وخمسين سنة منها ثلاث سنوات مع جدّه الحسين(عليه السلام) وبعدها مع أبيه الإمام السجاد(عليه السلام) خمساً وثلاثين سنة إلّا شهرين، ثم كانت مدّة إمامته(عليه السلام) بعد وفاة أبيه تسع عشرة سنة وشهرين، فعمره(عليه السلام) بمقدار سنوات عمر جدّه الحسين وأبيه السجاد(عليهما السلام) وشهد(عليه السلام) في بداية حياته الشريفة واقعة الطف ومجزرتها علي أيدي الأمويّين وأنصارهم من أهل الكوفة، وعاش المحنة التي مرّت على أهل البيت في طفولته ورافق الرزايا والمصائب التي توالت على أبيه زين العابدين(عليه السلام) من حكّام الجور في ذلك العصر، وبعد أبيه ما يقرب من عشرين سنة.
وقد نصّ على إمامته وخلافته الإمامُ زين العابدين(عليه السلام) في كثيرٍ من المناسبات منها قوله: (ألا وإنّه الإمام أبو الأئمّة، معدن العلم يبقره بقراً، والله لهو أشبه الناس برسول الله(صلى الله عليه وآله)...) وغيره.
بدأت إمامةُ الباقر(عليه السلام) في عهد الوليد بن عبدالملك، وقد استمرّت إمامته بقية خلافة الوليد ثم خلافة أخيه سليمان بن عبدالملك ثم خلافة عمر بن عبدالعزيز فيزيد بن عبدالملك، فخلافة هشام بن عبدالملك..
من وصاياه(عليه السلام):
1ـ قال(عليه السلام): (ما دخل قلبَ امرئ شيءٌ من الكبر، إلّا نقص عقله مثل ذلك قلّ أو كثر).
2ـ قال(عليه السلام): (الغنى والعزّ يجولان في قلب المؤمن، فإذا وصلا إلى مكان فيه التوكّل استوطنا).
3ـ قال(عليه السلام): (إيّاك والكسل والضجر؛ فإنّهما مفتاح كلّ شرّ، من كَسلَ لم يؤدِّ حقّاً، ومن ضجرَ لم يصبرْ على حقّ).
4ـ قال(عليه السلام): (أسدّ الأعمال ثلاثة: ذكر الله على كلّ حال، والإنصاف من نفسك، ومواساة الأخ في المال).
وأنشد في مدحه أحد العلماء قائلاً:
أثني بكلّ فمي بمدحٍ عاطر بالسيد العَلَمِ الإمام الباقر
من جدّه المبعوث أحمد ذي العلى ولَأمُّهُ الزهراء ذاتُ مآثر
قد أبلغ المختارُ خيرَ تحية نحو الإمام على لسان (الجابر)
بقر العلوم وغاص في أوساطها فهو العليم بما مضى والغابر
عيناه كالمصباح تجلو في الدجى ويداه جوداً كالسحاب الماطر
في داره تلقى هنا مستعطياً وهناك مستفتٍ لملءِ محاضر
في الليل كالنسّاك يلبس برنساً يبكي إلى الله الودود الغافر
أخلاقه مثل النسيم لطافة إذ ما يسير على الأديم الزاهر
في هيبة أخّاذة، فكبارهم في جنبه مثل الصبي الصاغر
يهدي إلى سبل الرشاد محذّراً للناس من أهوال يوم آخر