تتقدمُ ساعات اللّيل الباردة بهدوئها السّاكن، والمدينة تغطّ بكلّ ما فيها في سباتٍ عَميق، تتلاصق الطّيور مع بعضها البعض لتحصل على مزيد من الدّفء، ارتباك ثلجي يعصف في مزاج الطّقس فينفض يده بالثلج المُتطاير فوق البيوت الخَالية من السّقوف، طقطقة الأبواب والأخشاب الرّاعدة تبعث القلق في الأرواح الحسّاسة، وثمّة قلب مزروع على الكوة يترقّب الأجواء العاصفة، تتراءى في مُخيّلته صور لأناس مجهولين يمرّون في باله ممزقي الثّياب مرتعدي الأجسام.. صغار كأفراخ الحمام يتكومون بعضهم على بعض يتدثّرون بأجسام بعضهم البعض.
يرتعد كيانه، تصيبه الغصة الوالهة فتنهمر من عينيه شلالات الحنين، ولا أحد يعلم أن هذا الرّجل نفسه القالع لباب عجز عن تحريكها عشرات الجنود، يلتفت يميناً ويساراً، تخاطبه السّيدة الجليلة بصوتها العذب المُداري للأوجاع المُتفجّرة في جوفه.
_ما الذي يشغل بالك يا سيّدي؟
_ اليُتم في هذه المدينة نهرٌ يجري بلا حدود بلا نهاية، نهرٌ يلفّ العشرات من البيوت المحتاجة إلى مدفئة، الكثير من الأطفال الآن تتشحّب وتتيبّس وتقشعر وتتشقق جلودهم، تصاحبهم عصرة المعدة الخاوية، يضغطون على بطونهم بإيديهم لتكف عن إصدار أصوات التّنبيه للحذر من شبح الجوع القاتل، هؤلاء أيتامي حتّى يناموا تحت سقف، كأنّهم ماثلون أمامي أنظر إلى وجوههم وشعرهم الدّاكن إنّهم متهيّئون للنوم وحالمون بالطعام، حتّى ولو لقمة واحدة أجسادهم منبسطة من قاطرات الزّمن، وجلودهم منقوشة بآثار الحصى النّابت على ظهورهم من تقلبهم ليلاً، لم تداعب أنوفهم رائحة الطّعام الفاخر ولم يغطوا في نوم عميق إراديّاً، وإن ناموا فما نومهم إلا غيبوبة إجباريّة، لم أر أحداً بحاجة لي أكثر من هؤلاء لأفتتح الطريق العريض أمام أحلامهم التي تسير في أنفاق ضيقة.
تغرق أعين السيّدة باللؤلؤ اللاصف فتجر حسرتها :
_فدتك نفسي وماذا ستفعل الآن؟
_ناوليني كلّ ما يمكن أنْ يغطي جسماً حتّى جبتي.
يجمع الرّجل الأوشحة والأغطية حاملاً إياها على ظهره مُتلثّماً بذيل عمامته يسير في تلك اللّيلة المُقمرة ترافقه أشعة القمر المراقبة لحركاته المفعمة بالوهج الدافئ، حتى القمر أخذ سهماً من محبته، يطرق الأبواب في السّاعات التي يختبئ فيها النّاس تحت جلودهم من البرد، موزعاً على الفقراء قطع الحنين.
المنزل الوحيد المختلف عن المنازل الأخرى، له حكاية أخرى، يحتل المجال الأكبر من اهتمام الرّجل، منزل من الأقمشة المتطايرة مع الرّيح العاصف، يتقدّم بغصته المريرة وقرقعة الحديد الشّفاف والأخشاب والأقمشة المتطاير سيمفونيّة أوجاع حادّة، لافتة للنظر العميق، ثمّة صوت توصله الرّيح أسماع الرّجل المتأمل لهذا الهيكل الخاوي، وهو يذرف الدّموع النّازفة المتناثرة كشرر النّار.
أين أنت يا حارس الدّار، يا أيّها الرّجل المُلثم، تعال فسهام البرد تنهش أجسامنا، يا سيّد الأيتام اقبل أتوسل لك يا رب فلتعجل لمجيئه قبل أن يقتطف الموت أرواحنا.
أطفال صغار كأفراخ القطا ملتحمين معاً تحت خيوط متهالكة، رداء في أنفاسه الأخيرة، مرتجفين برداً وجوعاً وألماً، ينحدر من بينهم صوت حار يثرثر بهذيان متكرر:
_إنّها رائحة أبي، أبي هنا، أبي قد زارنا اليوم.
يرتجف الفتى من الحمى وتصطك أسنانه مع بعضها البعض مستمراً في هذيانه الخاص:
_ لا أدري أأنا في واقع أم حلم، يتصلب الدم في جسدي.. هذا الوجع يسحرني يتمدد في جسمي تحبس في داخلي صرخة مبحوحة.. عضلاتي متكاسلة ورقبتي مصابة بتكسر و جسمي خال من الدم.. برد شديد ولكني أشعر بالدفء.
يمرر الرّجل الملثم يده فوق مواضع الألم، يفرك عضلاته المتصلبة من الركبة إلى أسفل القدم، ينبعث الشّرار المتناثر في روحه ليمنح الفتى مزيداً من الدفء، يطرد الحمى بتمتمته العجيبة فيسيل عرقه وكأنّه يمتص الأوجاع ساحباً إياها إلى داخله، يبرد دم الفتى وتعود أنفاسه النشيطة.
فينهض الرّجل لإكمال المُهمة يستخرج الأوشحة والملابس الثّقيلة لتغطية الأطفال الصغار، يتحسس مواطن الألم في أجسادهم فيغشاهم دفء نادر، يقطع الخشب يسد الفوهات المفتوحة، يرمق القدور ساكنة فوق الرفوف مثل شيء ميت.
كسرعة البرق يغلي الماء استعداداً لإحياء الحياة رجل اتقن جميع علامات البر، رجل لا يعرف أن يتوكأ يوماً على عصا، هكذا يتحسس أصواتهم المتكاسلة حلم واقعي يداعب أعينهم أكف ذهبية تلمع أمام أعينهم فتشرق عليهم شمس ليلية تجفف ما تدمع به وجناتهم وتبرأ الجروح المتكومة على جلودهم رجل يحل أينما تحل سحابة شتاء ضبابي.
يسكن الأطفال مع سكون اللّيل في غفوة هانئة، يتأهب الرّجل للخروج من دارهم بعد انتهاء مهمته المُشرفة، في السّاعات المتأخرة من اللّيل الصّاخب يقف بلا انحناءة في مملكة البالين والمتعبين يسعى أكثر من قدمين أمام البيت مميطاً لثامه عن ثنايا وجهه الكريم، وببريق لحيته المُرصعة بقُبل الصّغار يحدثه بلغة خاصة لا يمكن فهمها إلا من شاء الله.
_ أيّها البيت المقام على نصف عمد أنا الولي الذي أمر الله الخلق بطاعته والاستجابة لولايته و هؤلاء الأيتام سهمي من الزّمن وهم تحت مدفئتي وعدتهم أنْ يبقوا فيك في مأمن ما داموا صغاراً وما عليك إلا أنْ تصغي لكلامي وأن تطيع.
يصدر البيت طقطقة كتحيّة للبطل، وتهفو تلك الأقمشة تحت قدميه لترتفع مجدداً تلبية لندائه البار.