الى

كيف تُدار منظومة الرعاية الطبية في زيارة الأربعين؟

في مدينة كربلاء المقدسة، حيث تغطي الحشود كل بقاع المدينة بإيمانية مطلقة قاصدين مرقدي الإمام الحسين وأخيه أبي الفضل العباس (عليهما السلام)، تنبض مفارز طبية لا تهدأ، تعمل بصمت وسط زخم الزائرين، لتشكل شبكة إنقاذ متكاملة، لا تعرف التوقف.

زيارة الأربعين هي الحدث الديني الأبرز في العالم، لما تشكله من مشاركة أعداد مليونية كل عام، وتعد اختبارا سنويًّا لقدرة المؤسسات المختلفة على إدارة الحشود البشرية، وسط هذا المشهد، تبرز العتبة العباسية المقدسة بوصفها مركزاً حيويًّا للتخطيط والتنفيذ، لا سيما عبر قسم الشؤون الطبية الذي أطلق خطة صحية واسعة النطاق، بدأت منذ الخامس من شهر صفر الخير، قبل أن تتوافد الجموع المليونية.

رئيسة قسم الشؤون الطبية في العتبة المقدسة الدكتورة هيفاء التميمي كشفت عن نشر خمس وعشرين مفرزة طبية، موزعة بدقة على محاور مدينة كربلاء، وداخل الصحن الشريف لمرقد أبي الفضل العباس (عليه السلام) وخارجه، وفي نقاط حيوية مثل جامعة العميد، مجمع العلقمي، باب طويريج، وساحة القسيم.

هذا التوزيع يعكس فهماً عميقاً لحركة الزائرين، وتوقعاً للحالات الطارئة، حيث تمركزت المفارز في مناطق ذات كثافة بشرية عالية، لضمان سرعة الوصول والاستجابة.

وجُهِّزت كل مفرزة بمستلزمات علاجية وطبية، ويشارك فيها متطوعون ومنتسبون من داخل العراق وخارجه، من اختصاصات متعددة: أطباء، ممرضون، مسعفون، مترجمون، حتى فرق دعم نفسي غير معلنة، وبلغ العدد الإجمالي للمتطوعين نحو ألفي شخص، وهو رقم يكشف عن حجم التعبئة المجتمعية، وعن قدرة العتبة المقدسة على استقطاب الكفاءات، وتنسيقها ضمن منظومة واحدة.

طب الطوارئ في قلب الزحام

في منطقة بين الحرمين الشريفين، حيث يشتد الزخم، تنتشر فرق إسعافية جوالة، يقود كلَّ فريق عنصرٌ مدرب على تقييم الحالات وتشخيصها وفق نظم فرز حديثة، هذه الفرق تتحرك للحالات التي تحتاج إلى التدخل الطبي، مزودة بحقائب طبية ونقالات، وتعمل ضمن منظومة تنسيق لاسلكية، تربطها بمراكز السيطرة والإغاثة، وعجلات الإسعاف المنتشرة في الشوارع المحيطة.

البرنامج الذي يديره مركز الكفيل للصحة والسلامة العامة، يحمل شعاراً لافتاً: "أنت آمن في ضيافة العتبات المقدسة"، وتُعد هذه العبارة، وعدًا ضمنيًّا بأن الزائر لن يُترك وحيداً في لحظة ضعف أو ألم.

وفي ذات السياق، صنع قسم الصناعات والحرف الفنية في العتبة العباسية المقدسة كرفانات خاصة، مجهزة لاستقبال الحالات الطارئة، وتقديم الخدمة على مدار الساعة.

هذا النوع من التصنيع المحلي يعكس القدرة على تكييف البنية التحتية مع الحاجة الميدانية، دون انتظار دعم خارجي.

وتمركزت المفارز الطبية حول المرقد الشريف في نقاط مثل باب قبلة المرقد المطهر، وساحة القسيم، وهي مناطق ذات حركة كثيفة، ما يجعل الوصول إليها ممكناً في دقائق، وهو فارق زمني قد يعني حياة أو موتًا في بعض الحالات.

ويشمل برنامج الإخلاء الطبي الطارئ، الذي يديره مركز الكفيل، نقل الحالات إلى مستشفيات مثل السفير، الحسيني، ومركز السيدة زينب(عليها السلام) الطبي.

وتجري العملية عبر تنسيق عالي المستوى، يشمل نداءات لاسلكية، عجلات إسعاف، وفرقًا ميدانية مدربة على إدارة الأزمات، والهدف هو إنقاذ الحالة وتقليل الضغط على المراكز الصحية، عبر فرز الحالات وتقديم المعالجات الفورية قدر الإمكان.

ووفرت العتبة العباسية المقدسة نحو مائة طن من الأدوية، بالتنسيق مع دوائر صحة كربلاء، الديوانية، ميسان، واسط، والسليمانية، إضافة إلى تبرعات من محافظات أخرى.

هذا التنسيق يكشف عن شبكة دعم وطنية، تتجاوز البعد المحلي، وتُظهر كيف يمكن للمؤسسات الدينية أن تلعب دوراً محوريًّا في إدارة الأزمات الصحية، عبر تعبئة الموارد، وتوزيعها بفعالية.

وسط كل هذا الزخم، خصص قسم الشؤون الطبية في العتبة العباسية المقدسة مركزاً متخصصاً بطب الأسنان في ساحة القسيم وفندق أرض النور، لتقديم خدمات للزائرين، هذه الإضافة قد تبدو ثانوية، لكنها تعكس فهماً شاملاً لاحتياجات الزائر، وتُظهر أن الرعاية الصحية تشمل الوقاية والعلاج طويل الأمد.

وتبين رئيسة القسم، أنَّ "عدد المتطوعين المشاركين في الخطة بلغ نحو 2000 متطوع ومتطوعة، كما شاركت في الخطة سبع عجلات إسعاف فوري وخمس عجلات صغيرة تعمل على الشحن تابعة للعتبة المقدسة، إلى جانب عشر عجلات تابعة لوزارة الصحة، منها سيارتان كبيرتان متنقلتان شاملتان مجهزتان بالمستلزمات العلاجية والطبية، والأجهزة، وملاكات طبية متخصصة".

الاستجابة قبل النداء.. داخل عقل المنظومة الطبية المتحركة.

في كربلاء، تُقاس الاستجابة الطبية بعدد المفارز، وبطريقة تفاعلها مع الواقع المتغير على الأرض، كل لحظة تحمل احتمالاً طارئاً، وكل زاوية من المدينة تتحول إلى نقطة اختبار للجاهزية، وسط هذا التحدي، تتكامل المفارز، الفرق الجوالة، مراكز السيطرة، وعجلات الإسعاف، لتشكل منظومة تعتمد على التوقع والاستباق ثم رد الفعل.

في هذا السياق، تلعب عجلات الإسعاف دوراً حاسماً، حيث تُستخدم للنقل، وتُجهَّز كمراكز طوارئ متنقلة، مزودة بالأدوية، أجهزة الإنعاش، وطاقم طبي مدرب، كل عجلة ترتبط بمنظومة لاسلكية، تُتيح لها التواصل مع مركز السيطرة، وتحديد أقرب نقطة استقبال، سواء كانت مفرزة أو مستشفى، هذا التنسيق يُقلل من زمن الاستجابة، ويُضاعف من فرص إنقاذ الحالات الحرجة، قد يبدو ذلك طبيعيًّا ولكن في ظل الظروف التي تحمل ملايين الأفراد سيكون ذلك شبه مستحيل، ولكن العتبة العباسية المقدسة جعلته ممكناً.

مركز الكفيل للصحة والسلامة العامة لا يعمل بمعزل عن باقي الأقسام، هناك تنسيق يومي مع قسم الخدمات، إذ يقول مدير المركز، السيد حيدر خليل إبراهيم: إنَّ "البرنامج يُنفذ عبر فرق مدربة من مسعفين ومتطوعين، يتولون مهمات الاستجابة السريعة، وإدارة الأزمات، ونقل الحالات الطارئة إلى أقرب مركز صحي أو مستشفى، عبر منظومة تنسيق عالية المستوى تشمل نداءات لاسلكية، وعجلات إسعاف منتشرة في المنطقة القديمة بمحافظة كربلاء والشوارع المحيطة بالعتبة المقدسة".

ويضيف: "الخطة تضم مفاصل رئيسة متعددة، منها سيطرة الإغاثة المسؤولة عن توجيه الحالات الإسعافية، والفرق الجوالة، وعجلات الشحن الإسعافية الموزعة على القواطع، بالإضافة إلى محور التقصي والفرز الطبي للحالات، لتقليل الضغط على المراكز الصحية، مع تقديم المعالجات الفورية عند الإمكان".

ويبين: أن "الفرق الإسعافية تنتشر في قواطع متعددة، تشمل منطقة بين الحرمين الشريفين، والمنطقة المحيطة بالعتبة العباسية المقدسة، وشارع صاحب الزمان (عجّل الله فرجه الشريف)، كما تمتد التغطية إلى الطرق المؤدية إلى مرقد أبي الفضل العباس (عليه السلام)، ويتألف كل فريق إسعافي من خمسة أفراد، مزودين بحقائب طبية متكاملة ونقالات، يقودهم عنصر مُدرب على تقييم الحالات، وتشخيصها، وتصنيفها باستخدام نظم فرز طبية حديثة".

ويشير مدير المركز: إلى، أنَّ "التعاون قائم مع دوائر الصحة في المحافظات، ومنها البصرة وذي قار، إذ استُقطب 35 مسعفاً من الملاكات الصحية المتمرسة، وفق كتب رسمية؛ لدعم مفاصل الخطة".

ويؤكد: أنَّ "المركز يعمل بالتنسيق مع عدد من أقسام العتبة العباسية المقدسة، منها: حفظ النظام، وبين الحرمين الشريفين، ومقام الإمام المهدي (عجّل الله فرجه الشريف)، والشؤون الطبية، إلى جانب فرق متخصصة في التخطيط، والتنسيق، والإعلام، بما يضمن استجابة صحية فعالة وآمنة للزائرين طوال أيام زيارة الأربعين".

في ساحة القسيم، حيث تزدحم الخطى، يعمل مركز طب الأسنان بوتيرة مختلفة.

الزائرون الذين يعانون من آلام الأسنان، أو يحتاجون إلى تدخلات بسيطة، يجدون خدمة متخصصة، تُقدّم لهم دون مقابل، هذا المركز يُقدم إرشادات وقائية، تُساعد الزائر على تجنب المضاعفات خلال الرحلة، بحسب الدكتورة هيفاء التميمي.

ما يتكشف من هذه المنظومة هي استجابة طبية وأسلوب يُدرس لإدارة الأزمة، يدمج بين البنية التحتية، الكفاءة البشرية، والوعي التنظيمي في زيارة الأربعين، الصدفة لا تأخذ محلًّا، حيث تُدار الأمور وفق خطة تُراجع يوميًّا، وتُعدل وفق المستجدات وهذا يُعيد تعريف العلاقة بين المؤسسة والزائر، بين الرعاية والكرامة، بين الطوارئ والطمأنينة.

مستشفى الكفيل كجهاز تنفس للمنظومة الميدانية

حين تتوزع المفارز الطبية على امتداد كربلاء المقدسة، لا تكتمل منظومة الرعاية دون مستشفى الكفيل التخصصي، الذي يتحول خلال زيارة الأربعين إلى مركز دعم متقدم، يُعزز قدرة الفرق الميدانية على التعامل مع الحالات المعقدة.

هذا المستشفى يعمل كجهة استقبال، ويُعيد توزيع الأدوار، ويُوفر خدمات تخصصية تُساند المفارز، وتُغطي الفجوات التي لا يمكن سدُّها ميدانيًّا.

خلال أيام الزيارة، يُفعل المستشفى خطة طوارئ خاصة، تشمل زيادة عدد الملاكات، وفتح ردهات إضافية، وتخصيص فرق طبية للتعامل مع الحالات المحالة من المفارز.

هذه الفرق تُنسق مسبقاً مع مركز الكفيل للصحة والسلامة العامة، لتحديد نوع التدخل المطلوب، وتوفير الجاهزية قبل وصول المريض.

وتُدار شعبة الطوارئ في مستشفى الكفيل بنظام فرز ثلاثي، يُحدد درجة الخطورة، ويُوجه الحالة إلى القسم المناسب: الجراحة، الباطنية، القلب، أو العناية المركزة.

هذا النظام يُقلل من زمن الانتظار، ويُتيح للطواقم الطبية التعامل مع الحالات الحرجة دون تأخير، في بعض الحالات، يُفعل المستشفى خدمة الإخلاء العكسي، حيث تُرسل فرق طبية إلى المفارز، لتقديم تدخلات تخصصية ميدانية، تُغني عن النقل، وتُسرع العلاج.

ويُوفر المستشفى أيضاً خدمات تشخيصية متقدمة، مثل التصوير بالرنين، المفراس، والتحاليل المختبرية، التي تُستخدم لتحديد مسار العلاج بدقة، هذه الخدمات تُقدم مجاناً للزائرين المحالين من المفارز، ضمن برنامج تكافلي يُدار من قبل العتبة العباسية المقدسة، ويُمول جزئيًّا من تبرعات أهلية ومؤسسات داعمة.

وفي الطابق الخاص بجراحة القلب، يعمل فريق متخصص على استقبال الحالات التي تُظهر أعراضاً حرجة، مثل الذبحة الصدرية أو اضطرابات النبض، هذا الفريق يُنسق مباشرة مع الفرق الجوالة، التي تُزوده بتقارير ميدانية، تُساعده على تجهيز غرفة العمليات قبل وصول الحالة.

ويُظهر التنسيق بهذا المستوى كيف تتحول المؤسسة الطبية إلى كيان حي، يتفاعل مع الميدان لحظة بلحظة.

الجانب النفسي مهم في المستشفى، وحدة الدعم النفسي تُفعل خلال الزيارة، وتُقدم جلسات قصيرة للزائرين الذين يواجهون صدمة، قلقًا، أو إرهاقًا شديدًا، هذه الوحدة تُدار من قبل مختصين، وتُنسق مع الفرق النفسية الميدانية، لضمان استمرارية الرعاية.

ما قبل الطوارئ.. التدريب، التنسيق، والذكاء التنظيمي في كربلاء المقدسة

لا تبدأ الاستجابة الطبية يوم الزيارة، بل تُبنى على أسابيع من التحضير، التدريب، والتنسيق بين الأقسام، فخلف الجاهزية تقف منظومة تدريبية تُعيد تأهيل المتطوعين، وتُجهِّزهم للتعامل مع مشهد لا يشبه أي طارئ تقليدي.

ويُطلق قسم الشؤون الطبية في العتبة العباسية المقدسة برنامجًا تدريبيًّا سنويًّا، يبدأ قبل الزيارة بأسابيع، ويشمل ورشًا تخصصية في الإسعاف، الفرز، الدعم النفسي، والتعامل مع الحالات الحرجة، وتُقدَّم هذه الورش للمتطوعين من داخل العراق وخارجه، وتُشرف عليها ملاكات طبية من مستشفى الكفيل، بالتعاون مع مؤسسات صحية محلية.

في مركز الكفيل للصحة والسلامة العامة، تُعقد اجتماعات تنسيقية يومية، تجمع ممثلين من الأقسام الطبية، الخدمية، الإعلامية، والصناعية، هذه الاجتماعات تُراجع البيانات، تُحدِّث الخرائط، وتُعيد توزيع الفرق وفق المستجدات.

ويشير القائمون على خدمة زائري الإمام الحسين وأخيه العباس (عليهما السلام) إلى أن المنظومة تُبنى على تخطيط، تدريب، وتنسيق متعدد المستويات لا بالارتجال.

تُستقبل الحشود المليونية في كربلاء المقدسة بمنظومة تُعالج، تُرشد، وتُطمئن، هذه المنظومة تسعى إلى تُجسيد معنى الضيافة، حيث يتحول الطب إلى رعاية، والتنظيم إلى كرامة، والزيارة إلى تجربة إنسانية متكاملة.
تعليقات القراء
لايوجد تعليقات لعرضها
إضافة تعليق
الإسم:
الدولة:
البريد الإلكتروني:
إضافة تعليق ..: