قال محمّد بن الحنفيّة(عليه السلام): لمّا كانت ليلة إحدى وعشرين وأظلم اللّيل وهي الليلة الثانية من الكائنة، جمع أبي أولاده وأهل بيته وودّعهم، ثمّ قال لهم: الله خليفتي عليكم وهو حسبي ونعم الوكيل، وأوصاهم -الجميع منهم- بلزوم الإيمان والأديان والأحكام التي أوصاهُ بها رسول الله(صلّى الله عليه وآله).
ثمّ أُغمي على الإمام(عليه السلام) ساعة، فأفاق وقال: هذا رسول الله(صلّى الله عليه وآله)، وعمّي حمزة، وأخي جعفر، وأصحاب رسول الله(صلّى الله عليه وآله)، وكلّهم يقولون: عجِّل قدومك علينا فإنّا إليك مشتاقون، ثمّ أدار عينيه في أهل بيته كلّهم، وقال: أستودعكم الله جميعاً، سدَّدكم الله جميعاً، حفظكم الله جميعاً، خليفتي عليكم الله، وكفى بالله خليفة.
ثمّ قال: وعليكم السلام يا رسل ربّي، وتلا قوله تعالى: (لِمِثْلِ هَٰذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ) و (إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوا وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ) وعرق جبينه وسكن أنينه، وما زال يذكر الله كثيراً ويتشهّد الشهادتين، ثمّ استقبل القبلة وغمَّض عينيه ومدّ رجليه ويديه، وقال: أشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له وأشهد أنَّ محمّداً عبده ورسوله، ثمّ قضى نحبه (عليه السلام)..
فعند ذلك صرخت زينب بنت علي(عليه السلام) وأمّ كلثوم وجميع نسائه، وا إماماه!! وا عليّاه!! وا سيّداه!!. وارتفعت الصيحةُ... فعلم أهلُ الكوفة أنّ أمير المؤمنين(عليه السلام) قد قبض، فأقبل النساء والرجال يهرعون أفواجاً أفواجاً، وصاحوا صيحةً عظيمة، فارتجّت الكوفة بأهلها وكثر البكاء والنحيب، وكثر الضجيجُ بالكوفة وقبائلها ودورها وجميع أقطارها، فكان ذلك كاليوم الذي مات فيه رسول الله(صلّى الله عليه وآله)..
قال محمّد بن الحنفيّة: ثمّ أخذنا في جهازه ليلاً، وكان الحسن(عليه السلام) يغسّله والحسين(عليه السلام) يصبّ الماء عليه، وكان (عليه السلام) لا يحتاج إلى من يقلِّبه، بل كان يتقلَّب كما يُريد الغاسل يميناً وشمالاً، وكانت رائحته أطيب من رائحة المسك والعنبر، ثمّ نادى الحسن(عليه السلام) بأخته زينب وأمّ كلثوم وقال: يا أختاه هلمّي بحنوط جدّي رسول الله(صلّى الله عليه وآله)، فبادرت زينب مسرعةً حتّى أتته به...
ثمّ لفّوه بخمسة أثواب كما أمر (عليه السلام)، ثمّ وضعوه على السرير، وتقدّم الحسن والحسين(عليهما السلام) إلى السرير من مؤخّره وإذا مقدّمه قد ارتفع ولا يُرى حامله، وكان حاملاه من مقدَّمه جبرائيل وميكائيل.. فحملا مؤخّره وسارا يتبعان مقدّمه.
فلمّا انتهيا إلى قبره وإذا مقدّم السرير قد وُضِع فوضع الحسن(عليه السلام) مؤخّره، ثمّ قام الحسن(عليه السلام) وصلّى عليه والجماعة خلفه، فكبّر سبعاً كما أمره أبوه (عليه السلام)، ويقول محمد بن الحنفية: ثُمّ زحزحنا سريره وكشفنا التراب، وإذا نحن بقبرٍ محفورٍ ولحدٍ مشقوقٍ وساجةٍ منقورة قد كُتِبَ عليها: (هذا ما ادّخره نوح النبيّ للعبد الصالح الطاهر المطهّر)، فلمّا أرادوا إنزاله الى ملحودة قبره سمعوا هاتفاً يقول: أنزلوه إلى التربة الطاهرة، فقد اشتاق الحبيب إلى الحبيب، فدُهش الناس عند ذلك وتحيّروا، وأُلحد أمير المؤمنين(عليه السلام) قبل طلوع الفجر.